الأحد، 30 مايو 2021

بقلم ... الشاعر أحمد عيسى

 بابا عبده

بقلم/ أحمد عيسى
بث التلفزيون المصري في أواخر السبعينيات مسلسل "أبنائي الأعزاء.. شكراً"، الذي يُعد من كنوز الدراما المصرية، وقد ألَّفه الفنان الراحل عبدالله فرغلي، وكتب السيناريو الأستاذ عصام الجمبلاطي، وقام ببطولته المبدع الراحل عبدالمنعم مدبولي، مع كوكبة من الفنانين المتميزين من الشبان والشوابّ أوانئذٍ، وكان العمل من إخراج محمد فاضل.
وفي وقتٍ كان من النادر فيه أن يلتحق المصريون بعملين في اليوم الواحد؛ نظراً لانتعاش الحالة الاقتصادية وعفوية الحياة وسهولتها حينئذ، كانت الأسر المصرية تلتف مساءً لمشاهدة هذه القصة الاجتماعية الرائعة.
تألَّق بالمسلسل عبدالمنعم مدبولي أو "عبدالحميد" في دور الأب المضحي المتفاني من أجل أبنائه، حيث لم يتزوج "بابا عبده" بعد رحيل زوجته، وكان لأبنائه أماً رؤوماً وأباً حانياً، تُجلله الحكمة، وتملأه الإنسانية، ويغمره الضمير والحنان.
وسرعان ما دارت الأيام، وكبر الأطفال وأنهوا دراستهم، فكان منهم الطبيب، والصحفي، والمهندس، وقد أبدع هؤلاء الفنانون حتى بدوا للمشاهدين أنهم لا يمثلون أدواراً كُتبت لهم وأُلِّفت بل هي طبائعهم وحقائقهم.
جسَّد الراحل فاروق الفيشاوي أو "دكتور ماجد" دوْرَ الطبيب الصلِف المتكبر النهَّاز العاقَ فتلبسه الدوْر نَفَساً، وملامحَ، وأداءً، وانفعالاتٍ.
وهكذا كانت الحال مع الصحفي المتسلق المهزوز غير البار، الهزيل أمام زوجته يحيى الفخراني أو "رأفت"، والمهندس الدبلوماسي المتميع الحريص على الوصول لحل يُرضي جميع الأطراف صلاح السعدني أو "عاطف".
خرج العمل برمته ممتازاً لا يشوبه إسفاف ولا يشينه عُري، ينتزع المشاهِد من بين أسرته، ويُولجه في ظلال أُسرة "بابا عبده".
وقد عالج هذا المسلسل قضية الوالدية والترابط الأسري من خلال طرفيها من العطاء غير المتناهي من الأب، والعقوق الغامر غير المحدود من أكثر الأبناء.
كما أومأت "الدراما الاجتماعية" كذلك إلى أنه ربما كانت الابنة آثار الحكيم أو "عفاف"، وزوجها وابن عمها محمود الجندي أو "محمود الميكانيكي" أحظى براً، وأوفر حدباً، وأكثر حناناً، من باقي أبناء بابا عبده جميعهم، في إلماعة وإلماحة إلى قيمة الإناث البارات بإزاء الذكور العاقين.
وإلى قصتنا..
"عبده" زوج وفيٌّ وأبٌ حانٍ لثلاثة أبناء، فقد حليلته فعكف على تربية أبنائه، ثم سرعان ما تقدم به العُمُر فأُحيل إلى التقاعد، بعد أن تخرج أبناؤه في جامعاتهم ثم تزوجوا، وانشغلوا عن أبيهم وتركوه شيخاً ستينياً وحيداً بشقته.
علم الأبناء بأن صاحب البيت الذي يسكن فيه أبوهم يريد أن يهدم البيت ويبنيه من جديد برجاً تجارياً شاهقاً، وقد عرض على السكان مبالغَ كبيرة ليوافقوا على إخلائه والرحيل عنه.
اجتمع الأبناء بتنسيق بينهم على زيارة أبيهم وإقناعه بالموافقة على ترك شقته والحياة معهم بالتناوب، كما راودوه أن يبيع ما بقي له من إرث أرض ببلدهم وتوزيعها عليهم، لا سيما أن منهم من يريد شراء سيارة، ومنهم من يبغي أن يسافر للخارج، ومنهم من يعتزم إنشاء مشروع.
وتحت ضراوة ضغط الأبناء وحنان الأب وعاطفته، طلب إليهم أن يتركوه يفكر يوماً أو يومين ثم يجيبهم.
وكان لـ"عبده" صديق هو "عابدين" اعتادا أن يصليا المكتوبات بالمسجد معاً، ثم يتوجهان بعد صلاة العشاء إلى المقهى يتسامران كل ليلة..
عبده: ما رأيك يا "عابدين"، أولادي يطلبون مني بيع الشقة وقراريطي الزراعية والحياة معهم بالتناوب؟
عابدين: لا تفعل يا "عبده"، المثل يقول: "ابني في يدي وأروح أدور عليه".
عبده: أنا أبٌ يا "عابدين"، هم بحاجة لأموال لقضاء أمور ضرورية لهم.
عابدين: قد كبروا وتعلموا وتزوجوا فلِمَ يضغطون عليك في شيخوختك وقد أفنيتَ حياتك من أجلهم؟
عبده: سأُرضيهم يا "عابدين"، فليس لي بعد الله غيرهم، كما أن حياتي قد أوشكت على الأفول، فماذا أصنع بالأراضي والأموال؟
عابدين: لستُ معك، إنها ستكون غلطة عُمرك، وخطيئة حياتك، ستندم لا شك إن فعلت!
باع "عبده" الشقة والأرض، وانتقل إلى بيوت أبنائه تباعاً، ثم لم يلبث أن جابهته صنوفٌ من المضايقات، وألوانٌ من المتاعب والعقوق من أبنائه وذويهم.
عاد "عبده" إلى المسجد والتقى "عابدين"، ثم خرجا بعد الصلاة يجلسان جلستهما المعتادة على المقهى..
عبده: كان لديك الحق كله يا "عابدين"، أبنائي جردوني من أموالي، ثم ساموني سوء المعاملة والجحود، والتنكر والعقوق.
عابدين: قد نصحتُ لك، حاول أن تسترد أموالك أو شيئاً منها، ثم تكتري لك مكاناً متواضعاً بجوارنا، وإلا فليس أمامك إلا دار المسنين!
عندها انفطر قلب أم كلثوم شاجية من مذياع المقهى قائلةً:
"وهي غلطة.. ومش هتعود.. ولو أن الشوق موجود.. وحنيني إليك موجود.. وهي غلطة"!
قد تكون صورة لـ ‏‏‎Ahmad Eisa‎‏‏
أعجبني
تعليق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق