عمي قاسم وخالتي منانة .......
قصة قصيرة .....
عمي قاسم وخالتي منانة .........هما وجهان لعملة واحدة من العهد القديم ........... من ذكريات الماضي الجميلة ....... إنهما قطعتا عملة نادرة قلما شهد الزمان مثلها ........ غابا عنا الآن منذ زمن بعيد وأفلت ذكراهما الجميلة وطواهما النسيان ..... وغاصا عميقا في الماضي البعيد ...... لكنني وكعادة خيالي الشارد دائما ، لا أتوقف عن البحث في جعبة ذكرياتي ، فأقلب فيها ثم أسحب ما وقعت عليه يدي الفضولية ........ وهذا الصباح كنت على موعد مع عمي قاسم وخالتي منانة ..........
تعود ذكريات هذع القصة لعقود طويلة مضت ........ كنت لا أزال حينها صبيا لا يتجاوز عمر العشر سنوات ، أي أواسط فترة السبعينات تحديدا ، وكل ما أذكره عن هذه الأسرة الصغيرة التي تتألف منهما فقط ، حيث أنهما لم يرزقا بأبناء ، هو أنني وفي كل مناسبة دينية كعيد الأضحى وعيد الفطر ، فكان والدي يصحبنا معه أنا وشقيقي الذي يصغرني بسنة واحدة في جولته المعتادة لمباركة العيد لبعض أفراد العائلة كما اعتاد أن يفعل في كل مناسبة دينية ولا يفوتها ، وهي عادة لا يزال يواظب عليها حتى أيامنا هذه ، رغم أنه شاخ الآن وتقدم به العمر ، ومات أغلب معارفه وأقربائه القدامى ، ولم تعد صحته تسعفه ليقوم بواجبه هذا كما يعتبره هو ، ويزورهم في بيوتهم ........... وكانت هذه الأسرة الصغيرة ضمن أولوياته دائما ............
كان عمي قاسم رجلا طاعنا في السن ، قليل الكلام هادئ المعشر والحضور ، يجلس دائما وظهره مسنود إلى جدار غرفتة ، بينما ركبتاه مثنيتان إلى صدره ، وعكازه محطوط بقرب ، يهش به أحيانا برفق ولطف على بعض القطط الصغيرة المزعجة التي تملأ غرفتهما وتحوم حوله ، فتصعد بعضها فوق جلابته الصوفية القديمة وتتعلق بتلابيبها ..............رجل طويل القامة والهيكل ، ضعيف البنية نحيفها ......... تقاسيمه قد نحتت بقوة في وجهه ، وغارت وجنتاه داخل فمه الفارغ من أي سن كما غارت سنوات عمره المديدة وأفل شبابه ............... يتكلم بصوت هادئ يجبرك على الإستماع إليه ، والإصغاء له بكل اهتمام وتركيز وكأنه يستحكمك أو يسيطر عليك ........ فهذا الرجل العجوز المكوم أمامي قد خبر من الأمور مالم يدركه أحد ...... وتجاربه في الحياة كثيرة ولا تنتهي ........ كما أن قصصه عن الحرب العالمية التي شارك فيها ، والتي لم أكن حينها وأنا أستمع إلى رواياته عنها أدرك أية حرب يقصد ....... لكني علمت لاحقا أنه كان أحد الجنود المغاربة الذين حاربوا في صفوف جيش المستعمر الإسباني في الحرب العالمية بأوروبا .........
وكانت خالتي منانة تلازمه دائما ولا تترك شيبوخها كما كان يحلو لها أن تسميه ...... (الشيبوخ) .......... امرأة مسنة ، قصيرة ومكتنزة ............. تبدو أصغر منه سنا ، وأكثر نشاطا وخفة رغم خصلات شعرها البيضاء المتسللة من تحت سبنيتها البيضاء التي تغطي رأسها .......... منديلها الجبلي الخمسي يلف خصرها ، وجوارب طويلة تغطي سيقانها وتمتد حتى ركبتيها ........... لا تزال تلك الملامح الباهتة ، وتلك التجاعيد المكمشة تخفي خلفها صورة فتاة شقراء جميلة كانت يوما ما تشع جمالا وحيوية ........ ولا بد أن وراء هذا الانسجام الكبير بين هذين الزوجين والكلام الهادئ الذي يجمعهما ، حبا كبيرا وعاطفة قوية .............
كنت صغيرا وأدرس في المدرسة الإبتدائية بسيدي طلحة حين انتقلنا للسكن بجوارهم في حي ديور المخزن بالباريو أواخر سنوات السبعينات ........... وكانت خالتي منانة هي من وجدت لنا ذلك البيت الذي سكنا فيه ......... فوجدتهما قد غيرا سكناهما القديمة وانتقلا بدورهما إلى غرفة إستأجراها أسفل بيت كبير ......... فكنت لا أفوت فرصة تمكنني أن أقتحم عليهما خلوتهما المعتادة ......... فيرحبان بي ويستحببان زيارتي الصغيرة لهم ، ربما كانا يحبان من يؤنسهماوفي وحدتهما ، ويخلق لهما بعد الهدير في المكان ، ويكسر صمته ........... فأجد عمي قاسم يجلس نفس جلسته التي ألفت مشاهدته عليها ، وأمامه مائدة صغيرة بقوائمها القصيرة كالقصعة ، وفوقها صينية قديمة عليها إبريق شاي بلغ من العمر عتيا،وكأس شاي قد شرب نصفه ...... وآخر فارغ لخالتي منانة ......... وعند الباب تجلس خالتي منانة وهي تطلب مني أن أجلس بجوار شيبوخها ، فتصب لي كأس شاي تفوح رائحة نعناع مميزة من البخار المتصاعد من فوهته ........ أتابعها بعيوني بفضول وهي تمسك رابوزها المزوق وتضغط عليه نافخة هوائه الذي كان يصدر صوت حفيف خفيفا في الغرفة داخل المجمار الصغير ، فتطقطق قطع الفحم التي يشتد لهيبها وتحمر عند كل نفخة منه ، وتنفث شواظها الذي يتطاير في الهواء ......... بينما صوت بقبقة الطاجين الذي تنبعث منه رائحة زيت الزيتون تكسر الصمت الشديد الذي يخيم على الغرفة الصغيرة ............
كانت حياتهما بسيطة يملؤها الحب والخنان ، والتفاني والوفاء كليهما للآخر ........ لم أراهما يوما يرفعان صوتهما على بعضهما ، أو يتبادلان كلاما فيه خدش لمشاعرهما ....... ولم أجد لسانها يوما ما سليطا ........ بل كان في كلامهما القليل والهادئ ، وتعابير عيونهما الذابلة كل الحب الذي تغنى به الشعراء وكتب عنه الأدباء ......
ثم غادر شيبوخها الدنيا بعد سنوات قليلة ، لتترمل بعده لسنوات طوال ، فكنت أصادفها أحيانا وقد كبرت أنا الآن ، وأصبحت شابا يافعا .....أصادفها عند بعض أفراد العائلة الذين كانوا يأوونها في بيوتهم بعد أن تقدم بها العمر وصارت إلى أردله .........
وبعد بضعة أعوام أخرى علمت أنها التحقت في النهاية بالرفيق الأعلى ، وبشيبوخها ، ومؤنس حياتها في الدنيا ، بعد أن عمرت طويلا ..................
رحم الله عمي قاسم وخالتي منانة ...... ورحم جميع أحبتنا الذين فقدناهم ........
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق