الاثنين، 28 ديسمبر 2020

بقلم الشاعر د. عبد الحليم الهنداوي...

 ١٩ الخريف

استيقظ الحكيم مبكرا كعادته وصلى صلاة الفجر ثم أخذ يمشى حول مزرعته مستنشقا هواء الصباح العليل الذى ينثر البهجة والنشاط فى النفس لكنه أخذ ينظر إلى الأشجار وهو حزين فلقد تعرت الأشجار من أوراقها وثمارها ووقفت بمفردها تصد الريح والريح تتلاعب بوريقاتها تحت جذوعها وأضحت الشجرة  مثل أم رؤوم فقدت أبنائها واحدا تلو الأخر إلى أن جفت وجف عودها وأصبحت أقرب إلى الموات منها إلى الحياة ويبدو على محياها البكاء على أطلال بالية!!

فى تلك الأثناء اقترب الحكيم من مريديه وألقى عليهم السلام فرد الجميع السلام ثم قال لهم انظروا يا أبنائي إلى هذه الأشجار التى تعرت من جميع مظاهر القوة والخصوبة

بذهاب ثمارها وتساقط أوراقها

بعد أن وصلت بالأمس القريب

لقمة عطائها وقد قلنا قبل يا أبنائى أن أى كائن فى هذه الحياة عندما يصل لقمة عطائه

وكماله فلا ننتظر منه سوى النهاية والنقصان وهذه سنة الله فى الكون فله الديمومة والكمال سبحانه

والخريف يا أبنائي هو أخر فصول الكائن الحي وما يحدث للأشجار يحدث للإنسان وجميع الكائنات الحية لكن الفرق يا أبنائى أن الإنسان يحمل ثلاث أشياء الجسد والروح التى تحركه والنفس التى فيها مناط التكليف لقوله سبحانه ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها صدق الله العظيم

والنفس تفارق الجسد فى موضعين عند النوم فإن قدر له الحياة عادت مرة أخرى وعند الموت لكنها لن تعود أبدا للجسد سوى يوم القيامة

أما الكائنات الأخرى فانها تحمل فقط جسد وروح فإن انفصلت الروح عن الجسد تحول الكائن لتراب!

فقام شاب وقال يا حكيم هل هذه الشجرة المتساقط عنها ورقها فى حالة موت الأن فعقب الحكيم سريعا قائلا لا هى فى حالة ثبات عميق وهو كالموت وعندما يأتي الشتاء حاملا معه المطر الذى يتفاعل مع عناصر التربة يبث فيها الحياة مرة أخرى وتبدأ دورة حياة جديدة إلى أن تصل للخريف مرة أخرى!

فقامت سيدة فى نهاية العقد الخامس من عمرها وقالت يا حكيم لما لا نكون مثل الأشجار

بعد أن نصل لنهاية العطاء تدب فينا الحياة مرة أخرى؟!

فتبسم الحكيم قائلا يا سيدتي هذه إرادة الله سبحانه أن يمر الإنسان بهذه المراحل طفولة صبا شباب شيخوخة وضعف

ثم موت وهذه لأكثر من حكمة

منها أن الإنسان موجود على هذه الأرض بشكل مؤقت وليس دائم لأنه مكلف وروحه لا تفنى وهذه الدنيا له دار ممر وليست دار مقر!

ولو أعطاه الله الرزق الدائم مع الشباب الدائم لبغى فى الأرض وأثر الحياة الدنيا وتمسك بالمكوث فيها للأبد!

لكن هذه المراحل تجعله يزهد فى الحياة الدنيا شيئا فشيئا الى أن يتمنى لقاء الله هذا للمؤمن أما الكافر فيتمنى أى حياة!

نرجع للأشجار مرة أخرى يا أبنائي فلعل المولى سبحانه أراد أن يبث فينا الأمل وعدم اليأس فعندما تفقد الشجرة كل مظاهر الحياة والعنفوان فى الخريف فإنها بالصبر تعود إليها تارة أخرى بالشتاء الذى يتبعه الربيع ثم الصيف!

وعندما ننظر إلى الشجر يا أبنائى فى الخريف فإننا نلاحظ أن جميع أشكال الحياة

قد هجرته وذهبت بعيدا حتى البلابل هجرته إلى الوديان وكذا الإنسان عند الشيخوخة يهجره الجميع فالشباب الغض لا يأنس بالشيخوخة الذابلة!

لذا جعل الله سبحانه البر بالوالدين بابا من أبواب دخول الجنة وعدم البر بهما من أوسع أبواب جهنم عياذا بالله رزقنا الله وإياكم بر الوالدين

ثم سمع الجميع فجأة صوت بلبل يأتى من الوادى القريب ثم يقف فوق الشجرة العارية

ويصدر أصواتا ثم يفر إلى الوادى ثم يعود إلى الشجرة مرة أخرى!

فتعجب الجميع وقالوا لما هذا البلبل يا حكيم يتمسك بالشجرة العارية؟!

فتبسم الحكيم قائلا ربما يا أبنائى ذكر الأيام الخوالي عندما كان يقف فوق الشجرة وهى بعنفوانها مغردا مع أحبابه مالئا الكون فرحة وبهجة!

فبعض الطيور كبعض البشر عندما يتشبس بالآطلال التى تذكره الأحباب!

ثم أنشد قائلا بعض الأبيات للشاعر عبدالحليم هنداوى

ما بال أشجار للخوف والعنت

قد أينعت فى شرقنا الداني

هجرت حمامات السلام عشوشها

وكذا البلابل عافت الأغصان

إن غادرت كل البلابل غصنها

وحدى أغرد ممسكا أفناني

مهما تعرت الأشجار من حلل الربى

لا يهجرها الطير الأصيل للوديان

ثم عقب الحكيم فكما آن هناك إنسان أصيل يا أبنائي يتمسك بمن يحب فى كل الظروف فكذا هناك طير أصيل!

ثم قال وكما الأشجار يا أبنائي أشعر أننى قاربت من محطتي الأخيرة وسوف يكون لقائنا بعد ذلك أقرب للوداع!

فقالوا بصوت واحد والدموع تبلل جفونهم قائلين لا تتركنا يا حكيم نشتاق أن ننهل أكثر من معين فكرك الذى يبث فينا الأمل!

فعقب سريعا هذه سنة الحياة يا أبنائى أحبب من شئت فإنك مفارقه وافعل ما شئت فإنك مجزي به!

وأن يا أبنائي لهذا العقل أن يستريح ولهذا الجسد أن يعود لعناصره الأولى!

وقليلا ولن تروننى فهذه سنة الله فى خلقه وقليلا وسوف ترونني فى شكل رجل أخر تلده إمرأة أخرى ربما يكون أفضل مني لكن أمه ليست أفضل من أمي فلا يوجد من هو أفضل من أمي سوى أمك أنت فى عينك أنت!

فإلى الوداع غدا إن شاء الله يا أبنائي

من كتابي حديقة الحكيم

د. عبدالحليم هنداوى.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق