الأحد، 15 سبتمبر 2024

بقلم ... الشاعر شهاب أحمد الفضلي

 الشعر: مرآة النفس ونافذة الذات

* شهاب احمد الفضلي
الشعر هو فن يتجاوز حدود الكلمات ليصل إلى أعمق مشاعر الإنسان وأفكاره، متجاوزًا بذلك الأطر اللغوية والتعبيرات التقليدية، وعبره يمكننا الدخول في رحلة عميقة الى النفس البشرية، رحلة تتناول الجانب النفسي والعاطفي من حياة الإنسان. وبما ان التحليل النفسي، بوصفه أداة لفهم النفس كونه يتيح لنا تفسير هذا الفن على مستوى أعمق. فهو يبرز ما استتر في اللاوعي ويكشف عن الرغبات، المخاوف، والصراعات التي تعتمل داخل الفرد.
في هذا السياق، يرى علماء النفس مثل فرويد ويونغ أن الشعر يمثل نافذة تطل على اللاوعي.
الشاعر عندما يكتب، يلامس طبقات خفية من وعيه، مما يجعله يعبر عن أمور قد لا يدركها في حياته اليومية. تلك الكلمات التي تأتي في شكل قصائد ربما تعكس رغبات مكبوتة أو صراعات نفسية دفينة. وفقًا لفرويد، يعد اللاوعي مستودعًا للرغبات والتجارب التي تم قمعها من قبل الأنا. وبالتالي، فإن الشعر يمكن أن يكون وسيلة لفهم تلك التجارب والمشاعر المكبوتة التي تجد طريقها إلى السطح في شكل إبداعي.
اذن الشاعر يجد في الشعر ملاذًا آمنًا، مساحة غير مقيدة يعبر فيها عما لا يمكن التعبير عنه بشكل مباشر. هذا الفن يعكس ما هو أعمق وأكبر من مجرد كلمات؛ إنه يستحضر الرغبات غير المحققة، الأحلام المنسية، والآلام المدفونة في أعماق اللاوعي. وبهذا، يصبح الشعر مساحة للشفافية النفسية التي تمكن الأفراد من مواجهة مشاعرهم الداخلية بشجاعة.
إلى جانب كونه أداة للتعبير عن اللاوعي، يلعب الشعر دورًا في الشفاء النفسي. يشير مفهوم "التطهير" الذي أشار إليه أرسطو في الأدب إلى أن الشعر يمكن أن يساعد الفرد في تفريغ مشاعره المكبوتة والتخلص من التوترات النفسية. هذه العملية تشبه ما يحدث في جلسات العلاج النفسي حيث يُطلب من المرضى التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم بحرية من أجل الشفاء.
اذن من منظور التحليل النفسي، يعد الشعر رحلة علاجية بامتياز. الشاعر عبر كلماته يتعامل مع مشاعره الداخلية، سواء كانت تلك المشاعر تتمثل في الحزن، الغضب، الفرح، أو الحب. إن كتابة الشعر تمثل طريقة للتخلص من الضغوط النفسية، حيث يمكن للشاعر أن يجد في كلماته عزاءً وراحة. هذه العملية تشبه نوعًا ما "الاعتراف" أو "التحليل النفسي" الذي يساعد الفرد على مواجهة ما بداخله من مشاعر مكبوتة ومضطربة.
كما ان الشعر لا يقتصر على الذات فقط، بل يتجاوزها ليلامس الآخرين. عندما يكتب الشاعر قصيدة، فإنه يتحدث بلغة إنسانية مشتركة. على الرغم من أن القصيدة قد تكون نتاجًا لمشاعر وأفكار شخصية، إلا أن الكلمات الشعرية تكتسب بعدًا متعديا عندما تجد صدىً في نفوس القراء. ومن هنا، يصبح الشعر وسيلة للتواصل مع الآخرين، وسيلة لفهم مشاعرهم وتوجيه رسائل يمكن أن تترك أثرًا عميقًا في حياتهم.
الشعر، إذن، ليس فقط وسيلة للتعبير عن الذات، بل هو أيضًا وسيلة للتواصل. إنه يخلق جسرًا بين الشاعر والقارئ، حيث يعبر كل منهما عن تجربته ومشاعره. وبفضل الشعر، يمكن للشاعر أن يلمس مشاعر الآخرين وأن يترك أثرًا فيهم، وفي الوقت نفسه، يمكن للقارئ أن يجد في كلمات الشاعر تعبيرًا عن مشاعره الخاصة.
إحدى الجوانب الفريدة للشعر تكمن في قدرته على نقل القارئ والشاعر معًا إلى عوالم جديدة. يمكن أن يكون الشعر بمثابة ملاذ للهروب من ضغوط الحياة اليومية ومنحهم فرصة لاكتشاف الخيال. هذه القدرة على الهروب من الواقع تمنح الشعراء والقراء معًا متنفسًا، حيث يعيدون اكتشاف الذات في سياق عوالم مليئة بالرموز والصور الجميلة.
كما الهروب من الواقع في الشعر لا يعني الهروب من الحقيقة أو تجاهل الواقع، بل هو إعادة تأطير للحياة من منظور أكثر إبداعًا وحرية. هنا يجد الفرد متنفسًا للتعبير عن ما هو غير مقبول في الحياة العادية، ويتيح للشاعر تخيل عوالم مغايرة قد تكون أكثر جاذبية أو أمانًا مما هو موجود في الواقع.
كذلك إذا نظرنا إلى الشعر عبر عدسة التحليل النفسي، نجد أنه يمتلك تأثيرًا عميقًا على النفس البشرية. لا يقتصر هذا التأثير على الشاعر نفسه، بل يمتد إلى القارئ أيضًا. القصيدة الشعرية تمتلك قوة قادرة على تحريك العواطف وإثارة التساؤلات. إنها تفتح أمام القارئ أبوابًا لفهم ذاته بشكل أفضل، حيث يمكن أن يجد في الشعر انعكاسًا لتجاربه ومشاعره.
علاوة على ذلك، يمكن للشعر أن يكون محفزًا للتغيير الشخصي. فهو يثير تساؤلات حول الذات والعالم المحيط، ويحفز القارئ على التفكير بعمق في الأمور التي قد تكون مرت مرور الكرام في حياته اليومية. هذه القدرة التحفيزية للشعر تجعل منه أداة قوية للتأمل والتغيير.
واخيرا وليس اخرا الشعر، من منظور التحليل النفسي، هو رحلة ممتدة إلى أعماق النفس البشرية. إنه مساحة للكشف عن الأسرار المكبوتة والصراعات الداخلية، وهو وسيلة للشفاء من الآلام النفسية والتعامل مع الذكريات المؤلمة. كما أنه وسيلة للتواصل مع الآخرين، حيث يخلق جسورًا من الفهم المتبادل والتعبير عن المشاعر المشتركة. وفي الوقت نفسه، يمنح الشعر كلًا من الشاعر والقارئ فرصة للهروب من ضغوط الواقع، والانتقال إلى عوالم مليئة بالخيال والجمال.
الشعر ليس مجرد فن للكلمات، بل هو وسيلة لفهم الذات، التعبير عن المشاعر، والتواصل مع العالم بشكل أعمق وأصدق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق