الاثنين، 27 يونيو 2022

بقلم ... الشاعر حسام الدين فكري

 ظل الروح

قصة قصيرة
بقلم: حسام الدين فكري
ــــــــــــــــــــــــ
حدث كل شيء بسرعة. وجدنا الجُثَّة مُسَجَّاة في الزُقاق المُظلم قبيل الفجر. الشاب الفقيد في نحو الثلاثين من عمره المُنقضي. الدماء المُتخثرَّة على وجهه شاهت ملامحه. كُنَّا ثلاثة في طريق عودتنا من سهرتنا المُطولَّة على المقهى القريب. انكبَّ أحدنا على الجسد المُتكوّم فما وجد أثراً لحياة. لم نستطع أن نعرف هويَّته على وجه الدقَّة. انضمت إلينا في لحظات (أم أشرف) بائعة الخبز، و(أم فتحي) بائعة الخُضر. صاحت الأخيرة صيحة مُدويَّة من مقام الصبا مزَّقت السُكُون. في اللحظة التالية صرنا زهاء عشرين نفساً تتحلَّق حول الجثة. انطلق أحدنا إلى قسم الشرطة، وما لبث أن عاد برفقة ضابط وبضعة مجندين بعد ساعة كاملة. بعد ساعة أخرى، جاءت سيارة الإسعاف، حملت القتيل ويممت شطر مشرحة زينهم!
في الأيَّام التالية انتابتنا جميعاً – نحن الثلاثة وبائعتي الخبز والخُضر – هلاوس ضبابية، ألقتنا في لُجَّة من غُيوم العقل. صرنا نرى القتيل في صحونا ومنامنا على السواء. في منامي رأيته لأوَّل مرَّة برداء أخضر ناضج اللون، تدثَّر به من رأسه إلى قدميه، وسرعان ما انتثرت بُقع من الدماء خضَّبت الرداء، ثُمَّ استحالت البُقع إلى ثُقوب، كُلّ ثُقب منها يُخفي جُزءاً من جسده فأرى ما خلفه، وما لبثت الثقوب أن اتسعت حتى ابتلعت جسده بأكمله!
(أم أشرف) رأته بعينين جاحظتين يعبر الشارع موفور الصحة، ويتحرك بخفة مدهشة بين السيارات، لكنه كان بلا قدمين!
توالت الرُؤى وأكلت رؤوسنا غُيوم رُمادية، لا تُمطر شيئاً. ثُمَّ تحولت الغيوم إلى صُداع مُزمن وآلام في المعدة، حين علمنا هويته. فما كان إلَّا (خالد الطيب) ابن عم (زكي)، صاحب ورشة السمكرة والدوكو، المُتاخمة للزُقاق المُظلم. لقد اقتطف القاتل زهرة من أزهار حيّنا اليانعة!
كُنَّا جميعاً نعلم أن خالداً يعمل بإحدى دول الخليج، وما علم أحدنا بأمر عودته إلى القاهرة. قُلنا في أنفسنا ربما عاد في إجازة قصيرة، وجرى ما جرى.
ذهبنا بالغضب في قلوبنا والأسى في عُيوننا إلى منزل جارنا عم (زكي) المكلوم بفقد فلذة كبده. استقبلنا الرجل بابتسامة واسعة تُشرق على وجهه، فأدركنا أن نبأ مصرع ابنه الوحيد لم يبلغه بعد. رُحنا نتبادل كأس الحيرة فيما بيننا، حتى أقدم أحدنا أخيراً على نقل الخبر المُفجع إليه. أبرقت عيناه والتحف بالصمت للحظة واحدة، قبل أن يُطلق ضحكة صاخبة وهو يقول لنا مُستنكراً:
- ما هذا الهراء؟!..لقد كان خالد يُهاتفني من الخليج، مُنذُ ساعة واحدة!!
فغرنا أفواهنا وتمدد رداء الصمت ليغطينا جميعاً.
من خلف ظهره، ظهرت فجأة امرأته (أم خالد)، بعينين مُتقرحتين من النحيب. كلماتها القليلة كانت سيفاً هائلاً شقَّ صدر الغموض:
- طوبى لكم، وليحفظ الله أبناءكم جميعاً. لم يزل زوجي لا يُصدق أن ابننا خالد قُتل في الخليج، حين تصدى بجسارة لشرذمة من الأشقياء، حاولوا اختطاف فتاة في وضح النهار!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق