إضحية
يخلع (خلاعة ) ملابسه ، يرتدي بدلة رقص ، تتدلى خيوط سميكة على ردفيه ، يزين صدره بورقتي شجر. يتكهرب جسده ، تتسع الدائرة الذي هو بؤرتها . يتمايل كالأفعوان ، يغني.
تصفق الأيادي ، تهرب البنات خجلاً ، تزغرد الحريم ، تتلصص عيونهن إلى اللحم المُفتضح والنتوءات المترجرجة في ميوعة .
جوقة العُمال يهللون ، يتراقصون ، يرتلون ، تنهال " النقطة ".
كلما هم بمُغادرة المزاد تتكاثر أوراق النقد ، يجر والده "سيد" الضرير ، يعودان إلى غـُرفتهما المُتصدرة مدخل البيت المُتهدل .
يتربع وسطها سرير كبير، يجاوره دولاب من الخشب المُخَربَش، يقعي " وابور جاز " وعدة الشاي أقصى يسار الغـُرفة .
يفرد لفة الكباب وسلاطة الطماطم والطحينة وأرغفة الخبز المقببة ، يتناولان الطعام في صمت ، لا يقطعه سوى احتكاك الأسنان ، وازدراد اللقيمات ، وكأن الحديث يعطلهما عن الأكل .
يُعد (خلاعة ) الشاي الغامق، يدلقه في جوفه الثلجي ، يمسح وجهه بالفوطة المُبتلة . يدع والده وحيداً يناطح اليقظة .
يمرق من الزٌقاق كالبُراق الوامض حتى لا يُلبي نداء الجالسات أمام بيوتهن ، يتنزه .. يفترس وجوه المُتهاديات .
يعترضه " جمال " ، يسوقه إلى رملة بولاق ، البيوت هشة ، بناءات الطوب اللبن تقاوم السقوط ، الحواري والأزقة طافحة بالطين اللزج, والمياه المُتخمرة .
يلجان بيت أم سمية، الناطور يعزف صفيراً مُتقطعاً تأميناً ، يطحنان برشام " أبو صليبة " ، يخلطانه " بالبيور " ، يستنشقان المزيج ، تفوح النكات العارية . تشاركهما الصهباء العبث .. تشتم :
ملعون أبو أهله .
يستنشق (خلاعة ) خط البودرة مُتمهلاً .. يعلق :
ابن مدارس .
يسحب (جمال ) تذكرة بودرة ثانية .. يثأثأ :
ثعلب .
تلتقط " أم سمية " الخيط الذي كاد أن ينقطع :
أكَّلته وصرفت عليه وطار .
ثقلت دماغ (خلاعة ).
انتصب بساقين مُتباعدتين وكأنهما يعانيان موسى الحلاق القاطع لجلده الرقيق، زاغت عيناه بحثاً عن المرفأ. هطل ريقه بلا إنقطاع .
تفحمت أغشية أنفه المُفرطحة ، انبثقت من أذنيه أسياخ حديدية مُـنصهرة ، تنافرت خلاياه المُجهدة . يسحبه (جمال ) كالحمل الفالت من مقصلة الذبح .
يصلان – أخيراً – إلى قضبان السكك الحديدية.
ينهار(خلاعة ) متأبطاً الأرض ، يجف حلقومه ، يأبى المثول لتوسلات(جمال ).
ارتمى على السياج المُبطن بالبراز والجيف ، تتفتت أعضائه على القضبان ، هجم عليه شبح الطاووس :
"عبقري وفنان .
بل أضحوكة .
للوجود ضريبة تُدفع مُقدماً .
تطييب خاطر .
لترض بالانتكاس "
يفر الشبح مُرتعباً .. تنبح كلاب .. تموء قطط ... فاق (جمال) المهدود حيله على نعيق القطار ؛ يعوي ، يرعش الأجساد ، يئد الصمت .
صرخ :
خلاعة..خلاعة.
يشده الطاووس المُرتجف.
يتسمر بدنه مُلتصقاً بالقضبان ، تضوي الإفاقة .
يكبله القطار .
يتراشق. يتناثر ، تتطاير رأسه.
في الصُبح يلبس سيد بدلة الرقص، يبدلها بجبة الشيخ "المُقرمطة" ، يتريش بالطاووس البُختري ، يمسك صليب الراهب.
أطفال الدكاكين يحملون أقفاص البلح والجوافة فوق الأكتاف المُتدثرة أوراق مقواة ، تُلهب ظهورهم السياط. تزجرهم العمامات البيضاء.
يلتفون حول " سيد ".
تمت بحمد الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق